المقدمة:
لقد تعدّدت المدارس الأدبية وشاعت فنون الشعر وألوانه على مرّ العصور. ويعتبر الغزل العذريّ من ألمع الأشعار الوجدانية التي تركت بصماتٍ على جدار تاريخ الأدب، لذلك ومن خلال هذا البحث يمكن الاطلاع على مضمون هذا الغزل وتاريخه، والتعرف على خصائصه وعلى المشاعر الوجدانية التي يتركها في نفس الشاعر. ويمكن أضافة بعض المعلومات على مخزون المعرفة بالنسبة لهذا الموضوع.
مفهوم الغزل:
الغزل هو فنُّ شعري يهدف إلى التّشبّب بالحبيبة ووصفها عبر إبراز محاسنها ومفاتنها. وهو ينقسم إلى قسمين: الغزل العذري، والغزل الإباحي.
مفهوم الغزل العذري:
الغزل العذري هو من الفنون الشعرية التي تنمو فيها حرارة العواطف الطاهرة العفيفة التي يستخدمها الشاعر لإبراز مكابد العشق، وآلام الفراق والبعد عن الحبيبة. وهذا الغزل يبتعد عن وصف المحاسن الجسدية لدى المحبوبة، بل يقتصر على إظهار المشاعر الجيّاشة اتجاهها. وقد كان قيس بن الملوّح أشهر شعراء الغزل العذري.
تاريخ الغزل العذري:
إن الغزل العذري ينسب إلى بني عذرة الذين اشتهروا بهذا النوع من الغزل. ثم انتشر وشاع عند القبائل، ومنهم بنو عامر الذي نشأ في كنفهم قيس بن الملوح. لكن ترجع بدايات هذا الغزل إلى العصر الجاهلي الذي انتشر في نهاياته، حيث كان الغنى والترف يعمّ بعض القبائل. أمّا مع ظهور العصر الإسلامي، فقد قلّ هذا الغزل مع دخول الناس في الدين وتغلغل التقوى في نفوسهم. ولكن الغزل العذري قد بلغ ذروته في العصر الأموي عندما نشأت حياة اللهو والثّراء والرّفاهيّة.
خصائص الغزل العذري:
إنّ الغزل العذري، كسائر الأنواع الأدبيّة، يتمتّع بخصائص متعدّدة تميّزه عن أنواعٍ أخرى. فهو أولاً، يختصّ بالعفّة والطّهارة. فالشّاعر يبتعد عن سوء الخُلق وعن اللجوء إلى الإباحية في وصف المحاسن. وقد ظهر ذلك في البيت الشعري لقيس ليلى:
سقتني شمسٌ يُخْجِلُ البدرَ نورُها ويكسفُ ضوءَ البرقِ وهو بروق
أيضاً، اعتمد الشعراء أسلوب إظهار المعاناة والألم نتيجة البعد عن الحبيبة والفراق بينهما، فقد قال الشاعر قيس:
فإن تكُ ليلى بالعراق مريضةٌ فإنّي في بحر الحتوف غريق
كما أن الشعراء تغزّلوا بمحبوبةٍ واحدة طوال حياتهم، فكان هذا دليلاً على وفاء الشاعر وصدق مشاعره تجاه محبوبته، ويمكن تأكيد ذلك من خلال قول الشاعر كثيّر عزّة:
ويحسبُ نسوانٌ لهنَّ وسيلةً من الحبِّ، لا بل حبُّها كان أقدمَا
إضافةً إلى ذلك، أسهب الشعراء في استخدام أسلوب النداء في قصائدهم لمناجاة معشوقاتهم. ويمكن رؤية ذلك في البيت الآتي لجميل بن معمر:
ألا ليتَ ريعانَ الشبابِ جديدُ ودهرًا تولى يا بثينَ يعـودُ
الغزل العذري:
تعبيرٌ عن وجدانية الشاعر:
إن الغزل العذري، منذ نشأته، عبّر عن وجدانية الشّاعر وعواطفه الجيّاشة الصّادقة تجاه معشوقته. فهو، يعبّر عن أعمق المشاعر التي سعى إلى سبْر أغوارها وكشْف مكنوناتها، والتي هي التّعبير عن الحبّ والعشق المتين الذّي لا يتزعزع أمام عثرات الزمن، فقد قال قيس، بعد أن حاول شفاء روحه من سقم الحبّ الذي ألمّ به جرّاء تعلّقه بليلى، وهو يخاطب روحه، ويحاور ذاته، ويناجي قلبه:
أَمَا عَاهَدْتـَنِي يا قَلبُ أَنِّي إذا ما تُبْتُ عن ليلى تَتُوبُ
فَهَا أنا تائِبٌ عن حُبِّ ليلى فمَا لك كُلّمَا ذُكِرَتْ تَذُوبُ
والغزل العذري، كان وما يزال، يعبّر عن مرارة السهر والأرق، وعن مشاعر الألم والمعاناة لدى الشّاعر، وذلك يعود إلى فراقه عن معشوقته والبعد عنها جرّاء عوامل قصريّة. فقد قال قيس "مجنون ليلى":
أظلُّ رَزِيحَ العقلِ ما أُطْعَمُ الكرى وللقلبِ مِنّي أنـّةٌ وخُفُـوقُ
وتبرز الوجدانية في أشعار الغزل العذري، حين يواجه الشاعر قيس بن الملوح، قَدَرَهُ المحتوم بحب ليلى، ويعبر عما يجيش في داخله، من حرقة وحسرة، وهمٍّ وغمٍّ، وذلك حين قضى الله بأن تكون من نصيب غيره، وترك له النواء والبكاء، والشكوى والبلوى. ولا سلوى له غير الشعر حين ينشد:
خليـليَّ لا واللهِ لا أملكُ الذي
قضى اللهُ في ليلى ولا مَا قضى لِيَا
قضَاهَا لِغيري وابتلاني بِحُبِّها
فهلا بشـيءٍ غير ليـلى ابتلانيا
وهكذا كانت المواقف الوجدانية عند شعراء الغزل العذري عطورًا زكية سحرت قلوبهم. فكان الشعر الغزلي، أداتهم للتعبير عما يجول في فضاء نفوسهم من مشاعر لُوِّنَتْ بألوان الفرح والمناجاة والعتاب والحزن والتشاؤم.
أشهر شعراء الغزل العذري:
· قيس بن الملوّح: عرف أيضًا بمجنون ليلى. فقد نشأ مع ليلى في بيئة واحدة، وترعرعا معاً حتّى كبرا، فتحابّا. لكنّ ليلى أجبرت على الزواج من غيره، فلم يتحمّل قيس وقع هذه الكارثة، ففقد صوابه. ومن اشعاره الغزلية بليلى:
وأيامَ لا نخشى على اللهو ناهيَا
تذكرت ليلى والسنين الخوالِيَا
فيا ربُّ سَوِّ الحبَّ بيني وبينها
يكون كفافًا لا علي َّولا لِيَا
ولم يُنْسِنِي ليلى افْتِقَارٌ ولا غِنَى
ولا تَوْبَةٌ حتى احْتَضَنْت السوارِيَا
وقد يَجْمَعُ الله الشتـين ِبعدما
يظنَّان ِكلّ الظنّ ِأنْ لا تلاقِيَا
جميل بن معمر: عُرِف أيضًا بجميل بثينة. لقد عشق بثينة، وهام بها، وتقدّم للزواج منها، لكنّه رُفِضَ كي لا يبدو أن هذا الزواج هو ستْرٌ لعار بثينة. فأُجبرت على الزواج من غيره، لكنّ هذا لم يمنعه من ملاقاتها. ومن شعره بحبيبته:
خليلي ما ألقى من الوجد باطن
ودمعي بما اخفي الغداة شهيد
إذا قلت: ما بي يا بثينة قاتلي
من الحب قالت: ثابت ويزيد
كثيّر بن عبدالرحمن الخزاعي: عُرِفَ أيضًا بكثيّر عزّة. عاش في العصر الأموي وقيل أنه أشهر شعراء الآلام في زمانه. وكان الرواة يتفنّنون في صياغة أخباره عن قصّة عشقه مع عزّة. ومن أبياته الشعرية الغزلية:
لِعَزَّةَ أطلالٌ أبَتْ أنْ تكَلمَا
تُهيجُ مغانيها الطروبَ المُتيَّمَا
أبَتْ وأبَى وَجْدِي بِعَزَّةَ إذْ نَأتْ
على عدواءِ الدَّارِ أنْ يتصرَّمَا
فإنْ أنْجَدَتْ كان الهوى بكَ مُنجدًا
وإن أتهَمَتْ يومًا بها الدَّارُ أتْهما
على أنَّ في قلبي لِعَزَّةَ وقْرَةً
من الحب ما تزدادُ إلا تتيُّمَا
الخاتمة:
لقد حظي الشعر الغزلي العذري على مر الأزمنة بجمهور عظيم، ولقي إقبالاً كبيرًا من قِبَل الشعراء والمستمعين، لعفّته وطهارته وإيقاعه العذب على مسامع الآذان. لذلك، دام هذا النوع من الشعر وحافظ على شعبيّته مع تواتر السنين و العقود، لدرجة أنه ما زال شائعًا ليومنا هذا. حتى أن بعض الشعراء قد تخصصوا في كتابة الشعر الغزلي، لقدر ما يوحي بأحاسيس الشّاعر ويعبّر عنها بطريقةٍ لبقة ومحبّبة لدى القرّاء والجماهير.