إصلاح فرض تأليفي في المقال الأدبي عــ2ــدد : الشعر الوطني
الموضوع
يعبر الشعر الوطني عن أحاسيس الشعراء تجاه وطنهم ويصور قسوة المستعمر تحريضا علي الثورة واستنهاضا للهمم.
توسع في هذا القول مبرزا وظائف الشعر الوطني من خلال شواهد دقيقة.
المقدمة :
للوطن في نفوس أبنائه من الوشائج ما يجعله متوهجا أبدا في القلوب، وقد انبري الشعراء الوطنيون منهم لترجمة ذلك التوهج شعرا ومشاعر ، ومن أبرزهم أبو القاسم الشابي بتونس وأحمد شوقي بمصر ومحمود درويش بفلسطين، لذلك يميل بعض النقاد إلى القول:" يعبر الشعر الوطني عن أحاسيس الشعراء تجاه وطنهم ويصور قسوة المستعمر تحريضا علي الثورة واستنهاضا للهمم".
- فما هي تجليات التعبير عن الأحاسيس الوطنية في شعر الثالوث الشابي وشوقي ودرويش؟
- وكيف صور الشعراء سياسة المستعمر؟
- وما مظاهر استنهاض الشعراء لهمم الشعوب المستعمَرة؟
الجوهر:
إن الصيغة التقريرية التي قام عليها الموضوع تجرنا إلى استجلاء ثلاث وظائف ألح عليها المعطى ، يمكن أن نجملها في الوظيفة التعبيرية والتصويرية والتحريضية ، وهذه الوظائف هي المبحث الذي سنشتغل عليه خلال تحليلنا.
تتجلى الوظيفة التعبيرية في مظاهر شتى ، منها تعبير الشابي عن حبه لوطنه تونس وتعلقه به تعلق الحبيب بحبيبه، فإذا بالعلاقة بينهما علاقة عشق وهيام يتجاوز حدود الاعتراف بالوجود فيه إلى الوجد به ، يقول شاعرنا في قصيدته الشهيرة "تونس الجميلة":
أنا يا تونس الجميلة في لج + ج الهوى قد سبحت أيّ سباحه
شرعتي حبك العميق وإنــي + قد تذوقت مره وقـــــــراحــه
فهذا المعجم الغزلي ينفتح بنا إذن على عالم مثال من المشاعر والأحاسيس الراقية التي بوأت الشابي مكانة مخصوصة في مدونة الشعر العربي فقد اعتبر الناقد التونسي "عبد السلام المسدي" أن " الشعور الوطني عند الشابي حاد يصل إل الذوبان والانصهار في الرمز الوطني الأوفى "لفظ تونس" فتقوم بين الشاعر ورمز عاطفته علاقات من الحب والإخلاص ثم النضال فالفداء".
غير أن هذا الملفوظ النفسي يتجاوز شخص الشابي إلى أمير الشعراء أحمد شوقي الذي عبر عن هيامه بوطنه وشوقه إليه شوق أهل المشيب إلى الشباب فجعله حلما يؤوب إليه بعد طول غياب وإبعاد، لما يشعر به من قداسة الوطن ونفاسته في نفسه، فصور العودة إليها استعادة للشباب والحياة المنشودة تألقا وفاعلية ، فقال:
ويا وطني لقيتك بعد يأس + كأني قد لقيت بك الشبابا
وما كان لهذا الإحساس ليتوقف عند مرتبة العشق الساذج الذي يتلذذ بالأخذ ومجرد القرب من الحبيب بقدر ما ارتقى إلى مرتبة الاستعداد للتضحية بالدماء والنفس، وتلك درجة من العشق الناضج والعطاء السخي لا يظفر بها إلا العشاق الصادقون، وقد كان أبو القاسم الشابي من هؤلاء ، إذ استعار في شعره صورة العاشق العذري الذي يتلف روحه في سبيل حبيبه وذاك في قوله:
لا أبالي وإن أريقت دمائي + فدماء العشاق دوما مباحه
لقد كان الشعر الوطني على هذا النحو وسيلة فنية اتخذها الشعراء مسلكا إلى النضال لا يقل خطورة وأثرا في النفوس عن الفعل النضالي المباشر ، إذ كانت المشاعر الوطنية منغرسة في أتون القلوب المتوهجة عشقا، فالوطنية بذلك سواء عند الشابي او شوقي أو درويش إحساس مقدس لا تضاهيه أي قيمة أخر فهو الذي يستمد نفاسته من مشاعر الحب وقداسته من مبادئ الدين ووجاهته من القيم الإنسانية عامة.
غير أن الشاعر الوطني قد تجاوز حدود التعبير الذاتي إلى التصوير الموضوعي للاستعمار واقعا ومتوقعا. فكيف رسمت صورة المستعمِر والمستعمَر معا؟
لقد انكشفت للمستعمر في قصائد الشعراء صورة دموية تشف عن وجه عدواني يحمل من البشاعة والفظاعة ما يثير الإشمئزاز في النفوس الحرة فتهب هبة الحق لنصرة المظلوم والانتقام من الظالم ومن أبلغ الصور التي رسمها الشابي في هذا السياق قوله واصفا طغاة العالم:
ألا أيها الظالم المستبد + حبيب الظلام عدو الحياة
سخرت بأنات شعب ضعيف + وكفك مخضوبة من دماه
فكانت هذه الصورة شاهدا على أحوال المستعمرين في كل زمان ومكان ، استخفافا بمشاعر الشعوب الضعيفة وهدرا لدماء الأبرياء، ولقد عاش الوطنيون نتيجة هذا الوضع تجربة السجن والنفي والحصار الذي يصادر حرية الفرد والجماعة ، وهو ما صوره محمود درويش
خل تجربة الاعتقال في سجون الاحتلال الصهيوني، حيث يقول:
سدوا عليّ النور في زنزانة + فتوهجت في القلب شمس مشاعل.
لقد كان الا ستعمار في كل الأحوال كيانا استبداديا إجراميا يسوس البلاد بالعسف والقهر لا يسلم من أذاه أحد صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى ، حتى الحيوان والجماد لا بد أن ينال حظه منه من الدمار والخراب والقتل.
يقول أحمد شوقي مصورا الاستعمار الإنقليزي بمصر:
خمسون عاما في البلاد يسوسها + بالعنف عاما والهوادة عاما.
إن هذه الصور هي صنيعة كيان استعماري قد تشرب روح العدوان والغدر على الضعفاء فما عاد يكترث بغير مصالحه وحاجاته من النهب والاستغلال لخيرات البلاد وجهود العباد.
فما هو موقف الشعراء الوطنيين من هذا الواقع؟ هل اكتفوا بتصويره والتعبير عن حبهم للأرض أم انبروا للدفاع عن العرض والتحريض على ذلك؟
لم يكن الشاعر الوطني في شعره ذاتا سلبية تميل إلى القول دون الفعل ، ولا هو ممن يقنع بالكلام دون الفعل ليكتفي به متغنيا فحسب رغم خطورته ، بل كان متصدرا الصفوف الأولى لبث روح المقاومة والتضحية في النفوس ، فاثر الشعراء أن يحرضوا على الثورة بالقلم وهم واعون تمام الوعي بخطورة دورهم، فلطالما تغنى الشابي بضرورة التسلح بالإرادة والعزيمة والتحلي بروح الفعل لا الانفعال ، إذ لا يستجيب القدر إلا لمن تحلى بحب الكرامة والعزة وشهامة النفس لا ذلك المتخاذل والمتكاسل عن نصرة بلاده ونفسه، يقول الشابي:
ألا انهض وسر في سبيل الحياة + فمن نام لم تنتظره الحياة
ولم يقف الشاعر عند مرتبة التوجه إلى الشعب بل توجه في الوقت نفسه إلى المستعمر متوعدا إياه بالويل والحسرة لما كسبت يمينه من جرائم وفظاعات، فحذره قائلا:
حذار فتحت الرماد اللهيب + ومن يبذر الشوك يجن الجراح
وكذا كان أمر شوقي ومحمود درويش ، فقد مثل صوت الشعراء بشيرا بالحرية ونذيرا بالثورة، وهو ما جعل الشعر الوطني استشرافا لأفق الخص بعيون متفائلة تزرع الأمل وتغسل النفوس من الامها عسى أن تشفى من أوجاعها وتطهر من أحزانها، فلم تكن التجربة الفلسطينية في النضال مثلا لتستغني عن الشعر الوطني الذي يترنم به المناضلون في كل أطوار نضالهم على جبهة القتال أو بين جدران الزنازين أو في ثنايا مقابر الشهداء ومواكبهم.
إن الشاعر الوطني في نهاية الأمر أديب ملتزم بهموم شعبه، إذ يشاركهم أحاسيسهم ومعاناتهم، فيتفاعل معها وينفعل بها ، ليترجم ذلك صورة وصوتا ، وإيقاعا موسيقيا حماسيا يستحيل نشيدا يصدع به الناس في ساحات القتال ، ويهربه الوطنيون في مناشيرهم السياسية .
وذاك هو دور الكلمة الصادقة التي تخترق الحواجز لتستقر في النفوس المؤهلة لحملها ألما واملا.
الخاتمة:
إن الشعر الوطني ذو وظائف متعددة تترابط كالضفيرة المتعددة الأضلاع،فهو تعبير وتصوير وتحريض ، تتوزع خلاله معاجم شتى غزلية ودينية وقيم إنسانيةكونية ،نسجها الشعراء على نحو من الإبداع الفني والإيقاع الموسيقي ما جعله لحنا تطرب له النفوس المقهورة فتترنم به ناسية أوجاعها وغازلة نسيج أحلامها المؤجلة إلى أمل قريب من التحرر والخلاص.
فما هي أبرز الظواهر الفنية التي جعلت من الشعر الوطني إبداعا وإمتاعا لا إبلاغا وإقناعا فحسب؟
منقول للإفادة
معهد منزل بورقيبة
الأستاذ : جمال بوعجاجة