تعودنا على أن ننظر إلى المجنون نظرة مختلفة , دونية , ساخرة , تجعلنا ننصت إلى ما يقول دون أن تكون لدينا نية تصديقه,
بل إن حديثه يتحول إلى مسرحية تضحكنا , إلى حكايةٍ مكسورة لن يعنينا إلصاق شظاياها لنتعرف ملامحها لأنها تكتسب معناها من كونها بلا معنى !
تذكرتُ ذلك المجنون الذي كان يحبذ دائمًا مجالسة التلاميذ أمام المعهد خارج أوقات الدراسة, أو ربما هم الذين يحبذون مجالسته و احتلال عزلته مع نفسه .
لا أذكر ما كان يقول لكني لن أنسى أني كنتُ أنصتُ إليه في صمت , و كنتُ في غضون هذا الصمت ألتقط حكمًا لا أدري كيف كان يأتي بها . في الوقت الذي يلتف زحام ضحكات التلاميذ حول صوته فأفقد أثره في النهاية .. أنا الواقفة عن بعد , بيني و بين هذا المجنون مسافةُ اهتمام و ربما تصديق .
تذكرتُ أيضًا تلك العجوز النحيلة و التي تقتعد دائمًا الرصيف المقابل لمبنى السجن في مدينتنا .
شعرتُ أن لها قصة مع هذا السجن , فمن يدري أي عزيزٍ عليها زُجّ به خلف قضبانها ,
و من يدري فربما هي الأخرى تتمنى أن تُسجَن فقط كي تنعم بما نعتبره أحيانًا شقاءًا " بين أربعة جدران " . فهذه العجوز استولى أقرباؤها على بيتها حسب ما ترويه الحكايات فكان تشرّدها في الشوارع نتيجة لهذا النكران .
أطلق عليها الناس إسم " الشبكَة " ( بكسر الهاء ) , حتى أن هذا الإسم التصق بها و محى خلفه إسمها الحقيقي الذي لا أحد منا يعرفه .
و لكنها مع ذلك لابدّ أن تُبدي اعتراضًا تلقائيا على هذا الإسم بأن تلحق بأي شخصٍ يناديها بالشبكة و ترميه بالحجارة التي تلتقطها من الأرض . و لم تكن شراستها الضعيفة لتردع الأشقياء عن استفزازها .
أما في الأوقات التي تكون فيها هذه العجوز في مزاج جيد فإنها لا تتوانى عن وضع يدها على خدها و الغناء مرددة أغنيات شعبية لا أعرف معانيها , و مع ذلك فإن الخدوش في صوتها تجعل هذا الغناء يبدو و كأنه بكاء وحدها تعرف من أين يُذرَفُ دمعُه.