كسوة الكعبة بعد الإسلام
لم يتح لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كسوة الكعبة إلا بعد فتح مكة، فكساها هو وأبو بكر الصديق بالثياب اليمنية، ثم كساها عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان "القباطي المصرية"، وهي أثواب بيضاء، رقيقة كانت تُصنَع في مصر.
ولقد حظيت مصر بشرف صناعة كسوة الكعبة منذ أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ حيث كتب إلى عامله في مصر لكي تحاك الكسوة بالقماش المصري المعروف باسم "القباطي" الذي كان يصنع في مدينة الفيوم، وقد تعددت أماكن صناعة الكسوة مع انتقال العاصمة في مصر من مدينة إلى أخرى حتى انتهى الأمر إلى مدينة القاهرة المُعزِّيَّة، بأن تأسست دار كسوة الكعبة بحي "الخرنفش" في القاهرة عام 1233هـ، وهو حي عريق يقع عند التقاء شارع بين الصورين وميدان باب الشعرية، وما زالت هذه الدار قائمة حتى الآن، وتحتفظ بآخر كسوة صنعت للكعبة المشرفة داخلها، واستمر العمل في دار الخرنفش حتى عام 1962 ميلادية؛ إذ توقفت مصر عن إرسال كسوة الكعبة لما تولت المملكة العربية السعودية شرف صناعتها.
أشرق نور الإسلام واتجه المسلمون إلى الكعبة أشرف وأنبل مكان يؤدون الصلاة يومياً متجهين إليه، ويحجون مرة كل عام (من استطاع) ويطوفون بالبيت العتيق.
واستمر المسلمون على ما كان أجدادهم عليه ومن سبقهم قبل الإسلام في إكساء الكعبة, وكتب التاريخ تزخر بأسماء من قام بإكساء الكعبة, مبتدئة بالرسول الكريم إذ يروي أنه - صلى الله عليه وسلم - كسا الكعبة ثياباً يمنية, وكان ينفق عليها من بيت مال المسلمين, وحرص من جاء بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إرسال الكسوة إلى الكعبة، فالخليفة أبو بكر - رضي الله عنه - كسا الكعبة بكساء لا نعرف نوعه، ثم كساها الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بكسوة سنوية تنسج من القباطي المصرية المصنوعة في مصر وينفق عليها من بيت مال المسلمين, وكان يأمر بنزع الكسوة القديمة في كل سنة ويقسمها على الحجاج، وسار الخليفة عثمان - رضي الله عنه - على نفس المنوال إلا أنه رأى أن تباع الكسوات القديمة وتنفق أثمانها في سبيل الله.
أما في العصر الأموي فقد كان الخليفة معاوية يكسو الكعبة مرتين في السنة الأولى من نسيج القباطي في نهاية شهر رمضان, والثانية من الديباج في اليوم العاشر من محرم، ويروي القلقشندي أن شيبة بن عثمان سادن الكعبة أيام معاوية - رضي الله عنه - كان قد استأذن معاوية بتخفيف الكعبة مما عليها من كسوات قديمة بعضها يعود إلى الجاهلية, فأذن له معاوية وطلب إليه أن يطيب جدرانها بالروائح العطرة (الخلوق) ففعل.
لقد قام العباسيون بدور كبير في تطوير صناعة النسيج وإنتاج أنواع متعددة من المنسوجات العراقية يتم نسجها في دور الطراز الخاص ودور الطراز العامة في مدينة دار السلام وغيرها من مراكز النسيج العراقية, فالخليفة المهدي سنة 160هـ كان قد كسا الكعبة بكسوة حملها معه من بغداد في موسم الحج، وقد أبدى له سدنة الكعبة خوفهم من انهيار جدران الكعبة لكثرة ما عليها من الكسوات, فما كان منه إلا أن أمر بأن يرفع جميع ما عليها من الكسوات ويقتصر على الكسوة الجديدة التي حملها معه، وقيل إنه حمل معه ثلاث كسوات كانت من نسيج القباطي والخز والديباج.
يتضح مما تقدم الدور السياسي الذي أدته كسوة الكعبة إضافة إلى دورها الفني, فاهتمام الخلفاء العباسيين بإرسال الكسوة يدل دلالة واضحة على مدى قوة مركزهم واهتمامهم بكسب رضا الناس عن طريق العناية بالكعبة.
واهتم مماليك مصر بالكعبة الشريفة وبكسوتها وأوقفت لهذا الغرض واردات قريتين في نواحي دمياط، وخصصت لصناعتها دار عرفت باسم دار الكسوة ومن هؤلاء المماليك السلطان الظاهر بيبرس -661هـ- والسلطان إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون ثم السلطان حسن -761هـ-.
وعندما استولى العثمانيون على مصر وامتد سلطانهم حتى شمل معظم الجزيرة العربية وقع على عاتقهم إرسال هذه الكسوة إلى الكعبة وأوقفت لهذا الغرض أوقــاف كثيرة، وأصـبحت عادة إرسال الـكسوة بعد ذلك فرضاً على كل وال.