النظرة إلى الأدب كصورة أمينة للحياة نظرة فاشلة فشل الأدب الذي يسعى لإكمال نقص الحياة ، إن التغلغل في الحياة يكشف حب الحياة لنفسها ، يكشف عن حقيقة أن سر الحياة هو عدم إمكانية أن تكون خرساء ، والأهم هو عدم وجود أي ضمانات لصدق الحياة .. الحياة تكذب ، لكنها لا تخطيء ، الأدب الممتزج بالحياة يمنحنا فرصة الوقوف على فائض السر ، فائض الكذب ، فائض الخطأ ، لكن يجب ألا نرغم الحياة في الأدب على قول الحقيقة ، الحقيقة في الأدب نقطة ميتة ، الشيء الوحيد الذي يؤكد عليه الأدب هو أن المعنى لا يموت ، هناك دائما معنى قد نسيناه والأدب وحده يجد ما لم نكن نبحث عنه ويلمح إلى إمكانية اقتراض ما وجده دون الإساءة إلى أحد .. الأدب مثل الحب يتمسك فقط بالصياغة التي يحكي بها هو قصته ، ويترك لنا حرية الكلام عن حكاية داخل الحكاية ، وحكاية أخرى داخل الحكاية ، ليس هناك نهاية ، ولا محطة أخيرة يقف فيها الأدب ويعلن الوضع اليائس للكاتب ، كتابة الأدب هي تخلٍ عن الكتابة بيدك اليمنى ومنح يدك اليسرى الفرصة لتتكلم ، نعم .. لن تكون الكلمات على السطر ، لن تكون واضحة ، لن تكون مرتبة ، لكنها ستكون مستفزة ، عدائية ، فاضحة ، مغرية ، وربما مضحكة ، الكتابة باليد اليمنى تصلح فقط للخطب السياسية ، للمواعظ ، للرثاء الممل ، أو الفخر الذي يبعث القشعريرة في الجسد ، وتصلح بشكل خاص للإيديولوجيات والأدب الذي لا طعم له ، الأدب المكتوب باليد اليسرى يضيف تفاصيل من خارج مخطط الحياة على التجربة لتكون فوق التاريخ ، فوق الواقعي أو الحقيقي ، هذه الكتابة لا تسمح أبدا للادعاءات أن تأخذ مكانها دون السؤال عنها .. لا يحب الأدب أن يكون مضادا لرغباتنا لهذا يفتش بصورة قد تكون محطمة عن الكلمة الدالة على الحب ، على الشهوة ، على المعرفة ، هذه الكلمة تبدد بطيشها وعدم اكتمالها كثافة المسكوت عنه ، اللامفكر فيه ، الغامض والمجهول ، هذه الكلمة تعد بتمزيق العلاقة مع المباشر ، المبتذل ، وتعمل دون كلل على فضح الاجترار المعتوه وغير الخجول .. يشير الأدب بأصابعه الجميلة إلى ما يربط اللذة بالمتعة ، النشوة لا مكان لها في الأدب لأنها الأدب نفسه ، اللذة الأدبية ليس لها تعريف فهي ما يأتي من الأدب ولا نستطيع السيطرة عليه ولا نبذه ، تذوق الأدب على طريقة برييا سافرين تحيل على الاستمتاع بنفحات متتالية من النكهات ، البعض يلمح إلى أن مثل هذا الأدب يقتات على تقديس السوء ، لكن مثل هذا الكلام لا يأتي إلا من ذات مخلخلة وجبانة ومنزوعة المركز ، ولد الأدب أثناء إقامة شعيرة السيمبوزيون في عيد كان يقام للإله ديونيسيوس تتخلله أناشيد ورقصات وولائم ، تقدم فيه الخمرة المشوبة بالماء كمخدر ، والسيمبوزيون بصفته حيزا للتقاسم والمزج يتم فيه استقبال مشاركين آخرين ، وهم العازفات على الناي والراقصات اللواتي سيقوم بعض الشاربين باستقدامهن إلى مضاجعهم فيضيفوا إلى الشعر متعة الموسيقى والحب .. لا مكان لهوميروس ، لا مكان للذاكرة والملاحم ، هنا مكان الخمرة والقبلة والشعر ، هنا مكان المتعة حيث يبرهن كل مشارك فيها عن ثقافته ، إنه مكان سافو بأشعارها الإيروسية ، ومكان أناكريون الذي زينت نصوصه الولائم والمآدب ، لهذا ينبغي النظر إلى القراءة كدعوة إلى وليمة ، احتفال ، منادمة ، تتحول فيها المتعة إلى شفقة والشفقة إلى صداقة ، والصداقة إلى حب .
لو نظرنا إلى تاريخ الجماعات والاتجاهات الكامنة في عمق هذه الجماعات لوجدنا أن ما يحركها ويصنع تاريخها هو الموت ، الموت هو أقصى نقطة يصل إليها التاريخ ، أما ما دون الموت فهو مجرد تاريخ لإنجاز أو إخفاق ، أكره التاريخ لأنه ينسى أسماء من صنعوه ، فقط يتذكر التاريخ جيدا أسماء الذين قاموا بكتابته ، كل تلك الجموع التي سقطت في الحروب ، التي حملت وأفرغت البضائع ، التي بنت الجسور ومدت الطرق أسماؤهم منسية ، لا أحد يعرفهم أو يتذكرهم ، الأدب بكل تواضع ، بكل إنسانية ، لا يتكلم إلا عما سكت عنه التاريخ ، عما يخفيه ويستبعده ، الأدب يساوي الحياة ، التاريخ يساوي الموت لأنه لا يعرف سوى الرجوع إلى الوراء ، الأدب يرفض أن يجعل من الموت العلاقة الوحيدة بين اللانهائية وبين المحدود الذي هو الإنسان ، إنه بكل بساطة تغيير لاتجاه المأساوي ، لن يفيد التحنيط ولا الترميد ولا حتى رمي الجثة للطيور للتخلص من نتانة اللحم ، لا ، لن يفيد شيء من هذا كله ، ما يمكن أن يكون تعزية وحيدة هو مشاركة الموت بتبديل عذابه بصور ، بألوان ، بكلمات ، الأدب وحده يعيد كلمات الميت إلى شفتيه ، هذا النَزِق المرتبط بشكل خاص من الذكاء ، هذا المنعزل وغير المتكيف مع محيطه ، هذا الساحر المغرم بوحدته ، هذا الكاتب الذي يدمر موضوع شغفه ، ليهرب من قلقه وخوفه من امتلاك رغبته ، هو الخبير بالأهواء التي تحرك الناس والتاريخ ، هو وحده من يسخر من الأناشيد المزيفة ، والعواطف غير المرتبطة بهوى مجنون يعيد ترتيب الشخصية ومعها الحياة ، الأهواء وحدها تبدد السلطة المطلقة للموت لأنها تأتي من نفس المكان الذي يصدمنا هو منه ، من هناك ، من اللامحدود واللاقرار ، الأدب مربك لأنه يفتح عيونكم على حقيقة مفادها : ليس أقسى على الإنسان من شعوره بأنه واقعة غامضة وغير دالة على شيء ، بلا أهواء يمنحها الأدب شفافيتها لن نعرف معنى الاستقلالية ولا الانسجام مع أنفسنا ولا الثبات ، النصوص ليست عناصر لغوية ، ليست تسلسلا بليدا لوحدات لغوية ، لتذهب إلى الجحيم أوجه التناظر الدلالي الموضوعية ، و الترابطات النحوية ، الجمل ، إذا لم تجعل كل أهوائي محل استعمال ، إذا لم تكن أهوائي طريقة من طرق امتلاك الآخر وحبه ، إذا لم تكن أهوائي هي الأدب في حدوده القصوى ، هي كل شيء ، هي إعادة خلق كل شيء ، الأدب هو تاريخ الحياة ، تاريخ الأهواء ، هو تاريخنا ، الأدب الجميل يبصق في وجه السلالات الحاكمة ، يهمل تاريخ الأديان ، يضحك بجنون من تاريخ رجال السلطة والثروة ، الأدب هو تاريخ المجرمين ، تاريخ المجانين ، تاريخ المنبوذين والصامتين ، تاريخ الهامشيين ، تاريخ المارقين ، تاريخ الحرية الجنسية ، تاريخ الإنسان المعذب بمقولة (من لا يشتغل لا يأكل ) ، هذا هو تاريخ الإنسانية الذي ينظر إليه البعض كفصول من الدناءة ، لكنه لا ينكر استمتاعه العميق به ، أو على الأقل لا ينكر بأنه تاريخ غير مغشوش ، لن يكون الأدب في صيغته الأكثر حميمية إلا إذا كانت نصوصه وليدة التواطؤ مع أهواء الناس المذهولة والمخدوعة ، ووليدة سخرية الواقع من نفسه ، أما تلك النصوص التي تسعى إلى أن تكون ابتذالية وسطحية وتافهة فعليكم الحذر منها ؛ لأن الحياة ليست سوى ما يراه ويكتبه الأدب ، ومن منكم يحب حياة مبتذلة وسطحية وتافهة ؟